الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الأنبياء والمرسلين ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد : تسأل – بارك الله فيكم - : أليس القول بأن الإيمان هو التصديق ولا يدخل فيه عمل الجوارح أمر يوقع في الإرجاء ولو بصورة مخففة ؟ أقول وبالله التوفيق :
[ 1 ] كل من اتهم السادة الأشاعرة بالارجاء في باب الإيمان ، لم يفهموا تقسيمة الإيمان ، وغالبهم اهل حشو ، مالوا في باب الإيمان إلى مناهج المعتزلة والخوارج وبالتالي اتهموا اهل العدل الوسط ( الأشاعرة والاثرية والماتريدية ) على أنهم اهل إرجاء ، وهم اهل الحق الصافي ، ( الأشاعرة ) هم الذين قاموا بفك شفرة علم الإيمان ، وذلك بالتفريق بين ثلاثة أنواع من الإيمان ، النوع الأول ( أصل لا يصح الإيمان إلا به ) ، ونقصانه يعني زوال الإيمان بالكلية والوقوع في الكفر الأكبر ، وهذا الإيمان لا يمنع من دخول النار لأنّ صاحبه مقصر في واجبات الإيمان ، ولكنه يمنع من الخلود الأبدي في النار ، وعناصر هذا الأصل ثلاثة لا رابع لها وهي قول القلب ( التصديق ) وعمل القلب ( الانقياد ) و إقرار اللسان ، والنوع الثاني من الإيمان ( واجب لا يتم الإيمان إلا به ) ، ونقصانه يعني نقصان الإيمان ولكنه لا يزول بالكلية , وعناصره - إضافة إلى عناصر النوع السابق - أداء الفرائض والواجبات والكف عن الكبائر والمحرمات ، والنوع الثالث من الإيمان : الإيمان الكامل المستحب ) الذي يتم به الكمال , وهذا النوع من الإيمان يؤهل لصاحبة لنيل الدرجات العلى من الجنة ، والمقصر فيه ينزل منه إلى الإيمان الأقل وهو الإيمان الواجب ، وعناصر هذا القسم – إضافة إلى عناصر النوعين السابقين - أداء السنن والمندوبات والكف عن المكروهات ، لقد أكرمنا الله تعالى بالتحديد الحاد الدقيق لعناصر كل قسم من أقسام الإيمان الثلاثة الخاصة به ، فلا تداخل بين عناصر الأصل وبين عناصر الواجب وبين عناصر المستحب ، كل وفق ما جاء في الكتاب والسنة ، دونما إفراط أو تفريط ، فمن لم يحقق عناصر أصل الإيمان فهو كافر الكفر الأكبر المستحق للخلود الأبدي في النار ، ومن حقق عناصر الأصل واقتصر عليها فهو مؤمن ولكن إيمانه ناقص يستحق بسبب نقص إيمانه دخول النار إلا أنه لا يخلد فيها خلود الكافرين ، ويخرج من النار إلى الجنة بشفاعة الرحمن ، وهم أصحاب القبضة ، الذين جاء الحديث أنهم دخلوا الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ومن زاد على عناصر الإيمان الأصل ولكنه لم يبلغ الإيمان الواجب فهو ظالم لنفسه ، لعدم بلوغه الإيمان الواجب ، إلا أنه تحت المشيئة إن شاء الله تعالى أدخله النار وإن شاء عفى عنه ، ولكنه إن دخل النار فلا يخلد فيها ، ولكن يخرج منها متى شاء الله تعالى بشفاعة الشافعين من الأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين ، وإن حقق عناصر الإيمان الواجب فإنه في مأمن من دخول النار ، ويدخل الجنة ابتداء ، بفضل ما حقق من عناصر الإيمان الواجب ، فإن اجتهد وزاد ودخل في عناصر الإيمان المستحب وما أكثرها ترقى في درجات الجنة وفق ما أتى من أعمال الإيمان المستحب ، وهكذا فإن دراسة الإيمان على تلك الطريقة من الدقة والوضوح ، يتم من خلالها ضبط أسماء الملة وأحكامها جميعاً ، دونما أدنى خلل سواء بالإفراط أو التفريط ، ولذلك فإن شهادة صدق في حق السادة ( الأشاعرة والماتريدية والأثرية ) ، أهل العلم المتخصصين في علم العقيدة على منهاج أهل السنّة والجماعة : لقد كلفت منذ زمن من قبل لجنة تطبيق الشريعة بعمل مبحث عن الإيمان يؤصل لمذهب أهل السنّة والجماعة ويمنع من الغلو في التكفير ، ولقد استغرق البحث عندي فيه قرابة العامين ، التهمت فيه غالب المباحث التي كتبها ابن تيمية عن مسائل وأحكام الإيمان ، واعتكفت عليها دراسة المتاني فوجدت أنّها لم تكتب على طريقة الفقهاء التي تجمع كل أدلة الباب ، وتحمل متشابهها على محكمها ، ومجملها على مفصلها ، بحيث يتضح معها الأصل من الفرع ، وما هي عناصر الأصل وما هي عناصر الفرع الواجب وعناصر الفرع المستحب ، وما هي أحكام كل قسم منها ، ووجدت صعوبة في تأصيل البحث من خلال تلك المباحث وإن كنت استفدت منها كثيرا ، ولكن عندما يتوجه طالب العلم إلى كتب الأشاعرة يعلم يقيناً أنهم الأصوليون المتخصصون في العقيدة على منهاج أهل الفرقة الناجية أهل السنّة والجماعة الحقة ، أصّلوا هذا الباب بفقه وعلم حتى أنهم بفضل الله ضبطوا مسائله ومنعوا الأمة من التكفير ووقوع سيف التكفير على رقاب أهل القبلة ، وما خالفهم في الباب إلاّ جاهل بفقه مسائل الإيمان والكفر أو حامل فقه وليس بفقيه ،
[ 2 ] تقسيمات الإيمان عند الأشاعرة : الإيمـان عند الأشاعرة قول وعمل وله أصل يدخل فيه قول القلب وعمل القلب ولازمه إقرار اللسان ، وله فروع يدخل فيه كافة شعب الإيمان ، قال الإمام الأشعري رحمه الله في كتابه اللمع - في بيان أصل الإيمان - : ( إن قال قائل : ما الإيمان عندكم بالله تعالى ؟ قيل له : هو التصديق بالله، ، واستدل لذلك بقول الله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] أي بمصدق لنا ، وهذا التصديق لاشك أنّه التصديق الانقيادي الذي يشمل قول القلب ( التصديق ) وعمل القلب ( الانقياد ) ، جاء في شرح جوهرة التوحيد : والمراد من التصديق أي القبول بما جاء به شرع الإسلام ، مع الرضى وترك التكبر والعناد والمدافعة ، وليس التصديق مجرد العلم ، قـال صاحب الشرح إبراهيم البيجوري رحمه الله : " وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول ، بل هو إذعان وقبول ذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم " أهـ [ تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص43 ] ، إذن أركان أصل الإيمان عند السادة الأشاعرة : التصديق والانقياد ، ( قول القلب وعمله ) مع اقرار اللسان ، واحسن ضابط لعلم الإيمان انهم : أخرجوا عمل الجوارح عن الأصل وأدخلوه في الفرع الواجب ، فالعمل شرط وجوب وليس شرط صحة ، فمن أتى بالعمل فقد حصّل الإيمان الواجب ، ومن تركه فهو مؤمن له أسم الإيمان وحكمه ، بما أتى به من أصل الإيمان وهو ثلاثة عناصر ( الاقرار باللسان ، وتصديق القلب وعمل القلب ) ،